تُعدّ التكنولوجيا النووية من أكثر المجالات العلمية تقدماً وتعقيداً في القرن الحالي، حيث تلعب دوراً محورياً في التنمية المستدامة للدول. ولا تقتصر هذه التكنولوجيا على إنتاج الكهرباء فحسب، بل لها تطبيقات قيمة في مجالات مثل الطب، الزراعة، الصناعة، البيئة، والأبحاث الواسعة. وقد تمكنت الدول ذات البنية التحتية النووية المتقدمة من تحسين جودة حياة مواطنيها من خلال الاستخدام السلمي لهذه المعرفة.
وقد حققت إيران أيضاً، بالاعتماد على خبراء محليين، إنجازات مهمة في مجال التكنولوجيا النووية غير العسكرية خلال السنوات الأخيرة. وتمثل هذه التطورات دليلاً واضحاً على القدرة العلمية للبلاد في تحويل المعرفة النووية المعقدة إلى تطبيقات ملموسة وفعالة للمجتمع؛ بدءاً من إنتاج الأدوية المشعة، وصولاً إلى تشعيع المنتجات الزراعية، مروراً بتصنيع معدات التصوير الطبي، وتطوير مجموعات التشخيص والعلاج.
- خطوة جديدة في علاج الأورام الخفية
تمكّن الباحثون الإيرانيون من تطوير دواء مشع متقدم ذي استخدام تشخيصي وعلاجي، قد يشكل نقلة نوعية في علاج أورام الغدد الصماء العصبية، تلك الأورام التي غالباً ما تنمو دون أعراض حتى مراحل متأخرة، مما يحرم المرضى من فرص التدخل العلاجي المبكر.
وفي تقنية العلاج الإشعاعي الموجه الجديدة، تُستخدم مركبات متخصصة تعرف بالأدوية المشعة، القادرة على الارتباط بدقة عالية بمستقبلات سطح الخلايا الورمية. ويعد “أوكتريوتايد” ومشتقاته أحد المكونات الأساسية في هذه التقنية، حيث يرتبط بشكل انتقائي بمستقبلات السوماتوستاتين على خلايا الأورام العصبية الصماء.
وتتم التعبير عن هذه المستقبلات بكثافة في هذا النوع من الأورام، وبالتالي فإن النظائر المشعة المرتبطة بهذه المركبات يمكنها الوصول مباشرة إلى الأنسجة السرطانية دون الإضرار بالأنسجة السليمة.
في هذا المشروع، استفاد الباحثون الإيرانيون من نظير الرينيوم-188 (Re-188) لإنتاج دواء مشع ثنائي الغرض “تشخيصي-علاجي”. ويتم استخلاص الرينيوم-188 من خلال مولدات محمولة، ويتميز بخاصيتين رئيسيتين: إشعاع غاما بقوة 155 كيلو إلكترون فولت لتصوير التشخيص الطبي، وإشعاع بيتا عالي الطاقة بقوة 2.11 ميجا إلكترون فولت لتدمير الخلايا الورمية. هذه الخصائص تجعله خياراً ممتازاً للعلاج المتزامن وتحديد الكتل السرطانية.
المنتج النهائي صُمم على شكل مجموعة أدوية مشعة جاهزة للاستخدام في المراكز الطبية النووية، ويستهدف بشكل رئيسي علاج المرضى المصابين بأورام الغدد الصماء العصبية في مرحلة التشخيص وما بعدها. ونظرًا لأن هذا النوع من الأورام عادةً ما يكون بدون أعراض في المراحل المبكرة، فإن استخدام هذا الدواء المشع يمكن أن يؤدي إلى التشخيص المبكر وعلاج أكثر فعالية للمرضى.
والمرحلة التالية للمشروع هي بدء التقييم السريري للدواء المشع المنتَج على المرضى. في حال الموافقة النهائية، يمكن لهذا الدواء المشع أن يصبح بديلًا محليًا واقتصاديًا للعينات المستوردة، كما سيشكل خطوة فعالة في طريق العلاج الموجه للسرطان وتعزيز المعرفة الطبية النووية في البلاد.
إنتاج دواء مشع يعتمد على نظير الرينيوم-188 في إيران يُظهر القدرات العلمية والتقنية العالية للبلاد في مجال الطب النووي وعلاجات السرطان الحديثة. هذا الإنجاز لا يساهم فقط في تحسين مستوى علاج المرضى المصابين بأورام الغدد الصماء العصبية، بل يقلل أيضًا من اعتماد البلاد على المستوردات ويمهد الطريق لإنتاج أدوية مشعة متقدمة أخرى.
ومن منظور أوسع، تمثل مثل هذه المشاريع دليلاً على أن التكنولوجيا النووية في إيران لم تبقَ حبيسة الأبحاث النظرية، بل أصبحت حقيقةً في خدمة صحة المواطنين. الدعم الموجه لهذا النوع من المشاريع يمكنه تعزيز مكانة إيران العلمية على الساحة العالمية، مع تأثير مباشر على تحسين جودة حياة المرضى وتطوير المعرفة الطبية في البلاد.
الجزء الثاني: المُسرّع الليزري الإيراني.. ثورة في علاج السرطان واستكشاف الفضاء
أضف تعليقا
تعليقات (0)