مقال: ماذا وراء المحادثات السعودية الإيرانية؟

 مقال: ماذا وراء المحادثات السعودية الإيرانية؟

طفت سفينة المفاوضات الإيرانية السعودية من جديد إلى السطح، هذه المرة بقوة أحدثت موجة إعلامية لم تستطع بعد تغطية التساؤلات بشأن التقاء مسؤولين رفيعي المستوى من الجانبين على الصعيد الأمني في بغداد، و التي سبق و استضافت أربعة جولات كانت أولاها في إبريل 2021، حيث نجحت لتستمر حتى الأسبوع الماضي، في علامة إيجابية على تقدم المحادثات – بحذر- نحو تجديد العلاقات المنقطعة لست سنوات و نيف بين دولتين جارتين في إحدى أهم بقاع الأرض سياسيا و أغناها في الثروات على الإطلاق.

تاريخ من الانقطاعات

بغض النظر عن اتجاه السفينة الحالي، تجدر الإشارة إلى الشرخ الموجود في أعماقها، و الذي يسببه التقاء خطين كانا – و لا يزالان- متوازيين في السياسات الداخلية و الإقليمية، فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، اضطربت روابط الحكومتين إلى حد الانقطاع أيام الملك السعودي الأسبق فهد بن عبد العزيز عام 1988، و كانت تلك فاتحة سوء على السياسات، الاقتصاد و حتى السياحة الدينية بين الحكومتين، و بالرغم من محاولة تلحيم سلسلة العلاقات المهترئة في زمن الرئيس الإيراني الأسبق “محمد خاتمي”، إلا أنها سرعانما تفككت لمرتين على التوالي، آخرهما بعد إعدام السعودية للمعارض الديني الشهير “نمر باقر النمر” قبل ست سنوات.

الانقطاعات الثلاث مع إيران ليست الأولى في تاريخ السعودية مع العديد من الدول، فمن ينسى الأزمة القطرية بـ2017 عندما حاصرتها مصر، البحرين و الإمارات بزعامة سعودية؟ حيث وصل التطويق حد إغلاق الحدود البرية، البحرية و الجوية، ليس أمام المسؤولين القطريين فحسب، بل حتى أمام البضائع و المواطنين، و كان السبب تبني أمير قطر آنذاك “تميم بن حمد آل ثاني” موقفا مناصرا لإيران، حزب الله و حماس حسب قناتي العربية و سكاي نيوز، لتستمر المشكلة أربع سنوات متتالية أدت إلى خفقان خليجي غير مسبوق، على الأقل منذ حرب الخليج الثانية.

أمريكا.. الضوء الأخضر لبدء المحادثات

 

الدور الأمريكي في حلحلة الوضع المتأزم خليجيا لم يعتبر تدخلا في شؤون هذه الدول، خاصة السعودية، فالتعاون بينهما كان وليد رحم اتفاق “روزفلت” مع الملك “عبدالعزيز” : الحماية مقابل النفط، و هو ما برع “ترامب” في تذكير ولي العهد السعودي به على الدوام، و من هنا يمكن معرفة انتظار الرياض للضوء الأخضر الأمريكي في كل شيء، حتى في التفاوض مع إيران.

 

أتت سحابة الغيث في إبريل 2021 على الروابط السعودي-قطرية، حيث أعلنت السعودية رجوع العلاقات رسميا بعد قمة خليجية ضمت الأطراف المتخاصمة، إضافة إلى “جاريد كوشنر”، صهر و مستشار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” و العنصر الغير خليجي أو عربي، لكنه الأصل في عودة المياه إلى مجاريها، و هو ما يشهد عليه كيل الشكر و المديح الابن سلماني إلى الولايات المتحدة على جهودها “لتعزيز أوصار الود و التآخي”.

الدور الأمريكي في حلحلة الوضع المتأزم خليجيا لم يعتبر تدخلا في شؤون هذه الدول، خاصة السعودية، فالتعاون بينهما كان وليد رحم اتفاق “روزفلت” مع الملك “عبدالعزيز” : الحماية مقابل النفط، و هو ما برع “ترامب” في تذكير ولي العهد السعودي به على الدوام، و من هنا يمكن معرفة انتظار الرياض للضوء الأخضر الأمريكي في كل شيء، حتى في التفاوض مع إيران.

و بالرغم من منح البيت الأبيض مباركته الخفية للمحادثات السعودية مع إيران، إلا أن المنطق يوجب على العاهل السعودي و ولي عهده الاتفاق مع المسؤولين في طهران أيضا، و يأتي السؤال : أي منطق؟

 

السعودية.. الأسباب الاقتصادية

تعاني السعودية اقتصادا متدهورا ترك بصمته في معيشة المواطن قبل الأمراء، إذ أصاب العجز ميزانيتها لأول مرة تقريبا عام 2019، فدخلت البلاد حالة تقشف ضاعفت القيمة المضافة –و التي لم تكن موجودة من قبل- ثلاث مرات، و أتت التقديرات لانخفاض النمو الاقتصادي بنسبة 3%، و هو ما اعتبرته قناة الجزيرة توقعا “شديد التفاؤل” نظرا لسياسات الحكومة السعودية، و التي عولت من قبل على الغرب في الاستثمار و إخراجها من الاقتصاد النفطي وفق رؤية 2030 لابن سلمان، قبل أن تتركه غارقا في اقتصاد مدمر معللة ذلك بمقتل الصحفي “جمال خاشقجي”.

لم يفقد ابن سلمان فرصته بعد، فلا يزال التنين الشرقي فاتحا باعه لاستقبال الاتفاقيات مع السعودية، و التي تشكل ساحة الفردوس بالنسبة لاستثمارات و مشاريع الصين، و هو ما كان بادئا منذ ثلاثينات القرن الماضي ببطء شديد، ليوصل السعودية إلى الصدارة في حجم الاستثمار و التجارة العربية مع الصين بأكتوبر 2021، و تعلن الأرقام الموجودة عام 2020 بلوغ حجم التجارة بين الطرفين  239.8 مليار دولار.

المعضلة هنا هي أن الاعتماد الكلي على طرف واحد سيدفعه لالتهامك كلقمة سائغة، و هو ما لا يريده ابن سلمان، الذي فضل توزيع نقاط شركائه ما بين الشرق و الغرب، فالصين لا تكفِ لتحقيق طموحات الأمير في إنجاز رؤية  2030 الراديكالية، بل يجب التوسع نحو الجيران أيضا، و لعل الخيار الأمثل هنا هو إيران، التي بدأت بالخروج من هاوية التضخم بالاتكال على صناعاتها الداخلية و الانفتاح على الجار أولا، و العالم ثانيا.

 

إيران..اقتصاديا

مؤشرات النمو الاقتصادي الإيراني تظهر جليا بعدم انتظار مفاوضاتها النووية في فيينا، حيث عقدت صفقات كبيرة مع الصين في اجتماع شنغهاي أدى إلى اتفاقية الخمس و العشرين عاما بقيمة 400 مليار دولار و شروع العمل عليها في منتصف يناير من هذا العام، إضافة إلى اتفاقية العشرين سنة مع روسيا على جميع الأصعدة العسكرية، الأمنية و الاقتصادية و الانضمام إلى نظامها للمراسلة المالية “مير”، مستعيضة به عن نظيره سويفت العالمي و الذي تخلى عن إيران بقرار أمريكي أبان العقوبات الترامبية، و لا ننسى قطر التي ربحت 14 اتفاقية للتعاون التجاري و الاقتصادي مع طهران أواخر فبراير في رحلة الرئيس الإيراني إلى الدوحة، و لعل أبرزها بناء النفق البحري بين البلدين، ما سيعزز التجارة بينهما و بين الدول الأوروبية و تلك المحيطة ببحر قزوين.

 

لطالما أكد الرئيس الإيراني “السيد إبراهيم رئيسي” سياسة الانفتاح على الجيران و العالم، مستغلا بذلك موقع بلاده الاستراتيجي و المطل على 14 دولة معا، لإيجاد حلفاء تجاريين راغبين في حليف موثوق.

 

التهافت على الكعكة الإيرانية بعد إعلانها سياسة الانفتاح شمل دولا كثيرة في المنطقة، و رنت مقترحاتها في رؤوس الإماراتيين و العراقيين أيضا، و كان لاعتمادها على نفسها دور كبير في ذلك، خاصة مع دعمها لشركات المعرفة، و التي تصنع المنتجات العلمية لتغني بلادها عن الافتقار إلى الخارج، إضافة إلى تصديرها للراغبين بالجودة و قلة التكلفة، إذ وصلت أرباح صادرات شركات محافظة أصفهان المعرفية وحدها إلى 54 مليون دولار العام الماضي، ما شجع الحكومة الإيرانية على تدشين “أحد التصدير” إلى 8 دول على الأقل، منها سوريا و العراق، فيما افتتحت فروعا لشركاتها في ست دول أخرى.

و على الصعيد النفطي و البتروكيميائي، يبدو التصدير الإيراني في أحسن حالاته، حيث ارتفع 40% بين 2021 و 2022 إثر الطلبات المتزايدة عليه رغم الحظر الغربي، و تقول وزارة النفط الإيرانية أنها أبرمت 50 عقدا خلال الأشهر الثلاث المنصرمة بقيمة 16.5 مليار دولار مع شركات أجنبية، عدا إدخالها التكنولوجيا إلى مجالات النفط، الغاز و البتروكيمايئيات في إبريل هذا العام، ما سيترك أثره على التوسع الإيراني باستخراج ثرواته و بيعها.

التحرك الإيراني حمل على عاتقه إصلاح الاقتصاد، و هو ما شهدته 2021 وفق صندوق النقد الدولي الذي لفت إلى نمو الاقتصاد بنسبة 4%، متنبئا بزيادة النسبة إلى 7% في 2022، و التي يتوقع الصندوق أن يتضائل التضخم الاقتصادي فيها إلى 27.5%.

يدرك ابن سلمان جيدا أن الاقتصاد لا يجب أن يقع ضحية الاختلافات السياسية، مهما غلا الثمن و كبر، لذا فإن اتجاهه حاليا إلى إيران – المنفتحة و المحتاجة- يفتح أمامه آفاقا للاستثمار في شريك موثوق، و ترحب بذلك دول أخرى، على مقدمتها العراق و لبنان المعتازتان إلى الدولتين معا، العراق مثلا ترك فريسة الدمار بعد استيلاء داعش على العديد من مواردها أبان احتلالها محافظاته، حيث أدخلت إلى جيبها 3 ملايين دولار يوميا منذ سيطرتها على المناطق العراقية حتى سقوطها عام 2017، و ذلك من خلال تصديرها القمح و النفط إلى دول أخرى، تاركة العراق يئن تحت وطأة عجز ميزانية بنسبة 19.79% في شوفينية اقتصادية تصب في صالح دولتها المزيفة ضد الأرض التي احتلتها، و هو ما يجعل العراق في أمس الحاسة لإيجاد شركاء تجاريين يرممون له الوضع الاقتصادي المتدهور.

 

سياسيا.. ماذا تريد السعودية؟

على الصعيد السياسي، وجدت السعودية نفسها فاقدة لدول كان يمكن أن تكون أقوى حلفائها، مثل سوريا، لبنان و اليمن ، و ذلك بعد كسرها يد التعاون و حتى حرمة الجيرة-يمنيا-، لينحاز الثلاثي إلى إيران، دون أن تستطيع الرياض تحقيق مآربها في هذه الدول، فلا هي أسقطت النظام السوري، و لا استطاعت حل حزب الله أو حتى سلب سلاحه، و انقلبت الموازين ليعود الرئيس السوري بشار الأسد بدعوة إماراتية إلى الجامعة العربية، بعد تعليق عضويته لعقد من الزمن، فيما لا يزال حزب الله محتلا لمقعده في مجلس النواب اللبناني، مع مشاركته في الانتخابات البرلمانية و احتفاظه بسلاحه الآخذ في التطور.

من ناحية يمنية، لا يبدو الموقف السعودي جيدا، و لا يمكن غض الطرف عما جاء في حصاد أنصار الله لعام2021 الواصف لأكثر من 13 عملية نوعية استهدفت في مجملها العمق السعودي و مؤسساته الحيوية كشركة أرامكو، إضافة لحماية الجوف، المحافظة الهامة استراتيجيا في المعركة بين الرياض و صنعاء، و دون الإشارة إلى كل ذلك، يمكن معرفة وقوع السعودية بين سندان التأثيرات الاقتصادية السيئة للحرب اليمنية عليها، و مطرقة عدم الحصول على ما تبتغيه من اليمن – أي السير على نهج دول الخليج- بالقوة.

كل ما قيل يحث السعودية على الاتصال بإيران في أسرع وقت ممكن، و التي قد تعطيها ما تريد سياسيا في المنطقة خاصة مع حاجة طهران الماسة لإنعاش اقتصادها، مع ذلك، كانت إيران رفضت حل أزمات المملكة مع الدول الأخرى، رغم تحريك الرياض وساطاتها السرية لتغيير الرأي الإيراني خاصة في الحرب مع اليمن، رغم ذلك، كانت بلاد سبأ أولوية أول جولات المحادثات بين إيران و السعودية، و استمرت المحادثات دون التوصل إلى غير ترحیب إيراني بهدنة مدتها شهرين، هذه المرة بوساطة من الأمم المتحدة.

و مع الرفض الإيراني للتدخل بين الرياض و اليمن، لا يستبعد تأثير المفاوضات بشكل غير مباشر سياسيا على المنطقة، فهدوء تيارات الخليج الفارسي أمر مستحسن و مطلوب لدى الجميع لوصول موجات صراعاته إلى آسيا الغربية كلها.

في المحصلة، لا تزال سفينة الرياض و طهران تمخر مياه بحر علاقاتهما المتشابكة، و بعد استئناف المفاوضات بنجاح و إيجابية، تشرئب رقاب من حولهما لاكتشاف ما إذا كانت سفينتهما ستصل جزيرة الاتفاق بأمان، لكن الأمر برمته يتوقف على مدى جدية الربانين في ذلك.

 


 

فاطمة آل يعقوب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *